العلامة الشيخ عبد الأمير الجمري: أيقونة المقاومة وشيخ الثورة والصمود
2025-12-16 - 7:49 م
مرآة البحرين: ليس سهلاً أن تكتب عن العلامة الشيخ عبد الأمير الجمري، لأنك كلما حاولت أن تجرده من الرمزية عاد ليغلبك بحضوره. فالرجل لم يكن زعيماً سياسياً بالمعنى التقليدي، ولا رجل دين يكتفي بالفتوى والخطبة، ولا مجرّد قائد محلّي في قرية بني جمرة. كان شيئاً آخر: كان "ميزان عدل" في بلدٍ بُنيت أركان سلطته على اختلال التوازن. ولأن البحرين عاشت عقوداً تُدار فيها اللعبة السياسية كأنّها مباراة بين طائفةٍ صاحبة الأرض وطائفةٍ صاحبة السلطة، فقد ظهر الشيخ الجمري كالصوت القادر على تحويل وجع الناس إلى مشروع سياسي حقيقي.
ولد في بني جمرة عام 1937، القرية التي تشبه قدراً يغلي: فقر، نسّاجون، تعليم ديني متواضع، وأحلامٌ أكبر من قدرة الجغرافيا. ومن هذا التراب خرج الطفل الذي حفظ القرآن صغيراً، وتربّى في بيتٍ يعرف معنى العرق والكدح. درس في الحوزات، وهاجر إلى النجف، لا ليعود ويكون عالم دين تقليدي بل ليعود بوعي فقهي وسياسي لا تحتمله سلطة اعتادت على رجال دينٍ مطواعين لا يرفعون صوتهم إلا في المواعظ الفردية البعيدة عن الواقع.
عاد الشيخ الجمري في السبعينيات ليجد البحرين في معركة الهوية السياسية بعد الاستقلال. دخل البرلمان في 1973، وعرف السلطة مبكراً: رأى كيف ينحلّ البرلمان بقرار، وكيف يتحوّل الأمن القومي إلى عذرٍ جاهز لإغلاق الأفواه. ومن هناك بدأ يتشكّل الرجل الذي نعرفه لاحقاً، ذاك الذي لا يساوم، ولا يبيع الناس "إصلاحات شكلية" مقابل منصب. ولأن السلطة لا تحب الرجال الذين لا يُشترَون، فقد حوّلت حياته إلى امتحان دائم.
لم يكن الجمري مشروعاً سياسياً فوقيًا، بل من وسط الأزقة، من الحسينية، من صدور الناس. حين بدأ في الثمانينيات ينتقد التمييز والحرمان، لم يكن ذلك ترفاً، بل انعكاساً للواقع، أغلبية شعبية بلا تمثيل، بلا وظائف سيادية، بلا برلمان. ولهذا كان من الطبيعي أن يصبح في قلب الانتفاضة التسعينية. لكن ما لم يكن طبيعياً كان حجم الخوف الذي أثارته السلطة من رجلٍ مسالم لا يحمل سوى صوته.
الانتفاضة (1994-1999) لم تُكتب في الكتب المدرسية، لكنها سُجِّلت في الشوارع: اعتقالات، شهداء، قمع، وقائد روحي واحد يربط الناس ببعض. صاغ الشيخ الجمري عريضتين تاريخيتين: الأولى للنخب عام 1992، والثانية للشعب عام 1994. مطلب واحد: إعادة دستور 1973. مطلب بسيط، لكنه خطيرٌ جداً على سلطة اعتادت حكم البلاد كأنّ الشعب مجرد رقم على ورق.
لم تتركه السلطة لحظة. حصار بني جمرة، اعتقال أول، إفراج، اعتقال ثانٍ، محاكمة عبثية، حكمٌ بعشر سنوات وغرامة بعشرات ملايين الدنانير. كانت الرسالة واضحة: أخرسوا هذا الرجل. لكن المفارقة أن كل جولة قمع كانت تزيد شعبيته، وتمنحه شرعية لم تستطع آثار التعذيب ولا التشويه الإعلامي المسّ بها. حتى لحظة الإفراج عنه في 1999، حين ظهر نحيفاً، مُتعباً، لكنه بقي واقفاً. تلك اللحظة وحدها كانت كافية لتفهم لماذا خافته السلطة: لأنه لم ينكسر.
بعد وصول حمد بن عيسى إلى الحكم، حاول الجمري أن يفتح باب المصالحة. لم يكن عاشقاً للثأر، بل للمستقبل. التقى رموزاً سنية، دعا للوحدة، طالب بإصلاح حقيقي. لكن قلبه كان يعرف الحقيقة: الإصلاح الذي لا يعيد البرلمان الذي ناضل الناس لأجله، ليس إصلاحاً. ولذلك قال كلمته الشهيرة: "ليس هذا البرلمان الذي ناضل من أجله شعب البحرين" ، وكان بهذا يكتب وصيته السياسية الأخيرة، قبل أن تكتمل مأساة صحية أودت بحياته.
حُمل على الأكتاف عام 2006 في جنازةٍ هائلة. لم يودّعه الشيعة فقط، بل البحرينيون الذين عرفوا فيه رمزاً للصمود. ترك الحوزة التي بناها، وترك الجمعيات الخيرية، وترك جيلاً يحمل ذاكرة الانتفاضة. ترك أبناءًا لعبزا أدوارًا وطنية واضحة، وترك حركة سياسية لم تكن لتولد لولا التضحيات التي دفع ثمنها هو وعائلته.
إرثه اليوم ليس تمثالاً ولا شعاراً. هو سؤال معلّق: لماذا يخاف النظام من رجلٍ مسالم؟ والإجابة ليست سياسية فقط، بل أخلاقية: لأن الرجل الذي يحمل الناس في قلبه أخطر من الدولة التي تحمل السلاح في يدها. ولأن صوت الحق، مهما بدا ضعيفاً، يفضح كل قوة باطلة.
الشيخ الجمري لم يكن أسطورة. كان إنساناً مقاومًا، لكنه كان الإنسان الذي تحتاجه البحرين في لحظة مظلمة. ومن هنا جاء مجده. ومن هنا أيضاً سيبقى رمزاً لم يتلوث، وجرساً يوقظ ذاكرة بلدٍ يحاول البعض إقناعه بأن نضاله كان حلماً، بينما الحقيقة أنه كان بداية الطريق.